الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقال رحمه الله في قوله تعالى: {والحرث}.الحرث هنا اسم لكل ما يُحْرَث، وهو مصدر سمِّي به؛ تقول: حَرَث الرجل حَرْثًا إذا أثار الأرض لمعنى الفِلاَحَة؛ فيقع اسم الحراثةَ على زرع الحبوب وعلى الجَنّات وعلى غير ذلك من نوع الفِلاحة.وفي الحديث: «احرث لدنياك كأنك تعيش أبدا» يقال حرثت واحترثت.وفي حديث عبد الله: «احرثوا هذا القرآن» أي فَتِّشُوه.قال ابن الأعرابيّ: الحرث التّفْتِيشُ؛ وفي الحديث: «أصدقُ الأسماء الحارِثُ» لأن الحارث هو الكاسب، وآحتراث المال كسبه، والمِحْراث مُسْعر النار والحَرَاثُ مَجْرى الوَتَر في القوس، والجمع أحْرِثه، وأحرث الرجل ناقتَه أهْزَلها.وفي حديث معاوية: ما فعلتْ نَواضحُكم؟ قالوا: حرَثْناها يومَ بَدْر.قال أبو عبيد: يعنون هزلناها؛ يقال: حرثت الدابة وأحرثتها، لغتان.وفي صحيح البخاريّ.عن أبي أُمامة الباهِلِيّ قال وقد رأى سِكّة وشيئًا من آلة الحرث فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخلُ هذا بيت قومٍ إلا دخله الذُّلّ» قيل: إنّ الذلّ هنا ما يلزَم أهل الشغلَ بالحرث من حقوق الأرض التي يطالبهم بها الأئمة والسلاطين.وقال المهلب: معنى قوله في هذا الحديث والله أعلم الحَضّ على مَعالي الأحوال وطلب الرزق من أشرف الصناعات؛ وذلك لِما خشِي النبيّ صلى الله عليه وسلم على أُمّته من الاشتغال بالحرث وتضييع ركوب الخيل والجهاد في سبيل الله؛ لأنهم إن اشتغلوا بالحرث غلبتهم الأُمم الراكبة للخير المتعيشة من مكاسبها؛ فحضهم على التعيُّش من الجهاد لا من الخلود إلى عمارة الأرض ولزوم المِهْنَة.ألا ترى أنّ عمر قال: تمعْدَدوا واخشوشنوا واقطعوا الرّكُبَ وثِبوا على الخيل وَثْبًا لا تغلبنّكم عليها رعاة الإبل.فأمرهم بملازمة الخيل، ورياضة أبدانهم بالوثوب عليها.وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما مِن مسلم غَرَسَ غَرْسًا أو زَرَع زرعًا فيأكل منه طيرٌ أو إنسانٌ أو بهيمةٌ إلا كان له به صدقة».قال العلماء: ذكر الله تعالى أربعة أصناف من المال، كل نوع من المال يتموّل به صنف من الناس؛ أمّا الذهب والفضة فيتموّل بها التجار، وأمّا الخيل المسوّمة فيتموّل بها الملوك، وأمّا الأنعام فيتموّل بها أهل البوادِي، وأمّا الحرث فيتموّل بها أهل الرساتيق.فتكون فتنة كل صنف في النوع الذي يتموّل، فأمّا النساء والبنون ففتنة للجميع. اهـ.
إذن فحين وصف الحق القناطير بأنها مقنطرة فذلك يعني القناطير الدقيقة الميزان، وهي قناطير مقنطرة من ماذا؟ {مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}. وكانت الخيل هي أداة العز وأمارة وعلامة على العظمة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».قول الحق: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} نرى فيهِ أن اللفظ الواحد يشع في مجالات متعددة من المعاني، فمسوَّمة من سامها يَسوُمها، ومعنى ذلك أن لهذه الخيل مراعى تأكل منها كما تريد، وليست خيلًا مربوطة بأكل ما يُقدم لها فقط، ومسوّمة أيضا تعنى أن لهذا الخيل علامات، فهذا حصان أغرّ، وذلك أدهم وذاك أشقر.ومسوَّمة أيضا، أن تكون مروضة، ومدربة، وتم تعليمها، فالأصل في الخيل أنها لم تكن مُستأنسة بل مُتوحشة، ولذلك لابد من ترويضها حتى ينتفع بها الإنسان. فكم معنى إذن أعطته لما كلمة مُسَوَّمَةِ؟سائمة، أي تأكل على قدر ما تشتهي لا على قدر ما نعطيها من طعام. ومُعلَّمة أي فيها علامات كالغّرة والتحجيل، وهذا جواد أدهم، وذلك جواد أشقر، أو أنها معلمة أي مروضة. فماذا تتطلب الحرب؟.إن الحرب تتطلب الانقطاع عن الأهل، فيجب ألا تكون شهوة النفس حاجزًا، سواء كانت شهوة للنساء، أو كانت شهوة العزوة للبنين ورعايتهم، أو كانت شهوة المال؛ فالمؤمن ينفقه في سبيل الله، والخيل أيضا يستخدمها الإنسان في القتال لإعلاء كلمة الله.ونلحظ أن هذه الآية- التي تعدّد أنواع الزينة- جاءت بعد الآية التي تتحدث عن الجهاد في سبيل الله والتي يقول الحق تبارك وتعالى فيها: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَالله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ} [آل عمران: 13].وذلك ليرشدنا إلى أن الإنسان المؤمن لا يصح أن يضحى بشهوته الحقيقية وهي إدراك الشهادة في سبيل الله أو النصر على العدو بسبب الشهوات الزائلة التي تتمثل في النساء، وفي البنين، وفي القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفي الخيل المسوَّمة والأنعام وقد قال الله عن الأنعام في سورة الأنعام: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بِهَاذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى الله كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 143- 144].حساب ذلك هو إثنان من الضأن، وإثنان من الماعز، وإثنان من الإبل، وإثنان من البقر أي ثمانية أزواج. ولا يمكن حسابها على أنها ستة عشر كما قال البعض قديمًا، لا؛ إن الزوج لا يعني اثنين من الشيء، ولكن الزوج واحد، ولكن يُشترط أن يكون مع غيره من جنسه. ومثال آخر هو كلمة التوأم، إن التوأم هو واحدٌ معه غيره، وهما توأمان، وهم توائم إذا كان العدد أكثر من اثنين.والحق يقول في مجال زينة الشهوات: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} وحين تسمع كلمة {الْحَرْثِ} فافهم أن المراد بها هنا الزرع، ولكن الله سبحانه وتعالى يريد منك أن تعلم أن الله حين يُنبت لك أشياء بدون معالجتك فإنه يريد منك أيضا أن تَسْتنبت أشياء بمعالجتك، وهذا لا يتأتى إلا بعملية الحرث.والحرث هو إهاجة الأرض؛ فالتربة تكون جامدة، فلابد أن يهيّجها الإنسان بالحرث، أي أن تفك يبوستها- وتَلاَصُق ذراتها لأن تلاَصُقَ ذرات التربة لا يصلح أن يكون بيئة للنبات؛ لأن النبات يحتاج إلى الماء ويحتاج إلى الهواء، ويحتاج من الإنسان أن يُمهد للشعيرات البسيطة أن تخرج، وتجد تربة سهلة تتحرك فيها إلى أن تقوى.إذن فالحرث يتثير الأرض، ويجعلها ليّنة مُتفتتة حتى تستطيع البذرة أن تنمو؛ لأن الله قد أودع في فلقتي كل بذرة مقومات الحياة الى أن يوجب لها جذر يأخذ مقومات الحياة من الأرض، وكلما قوى الجذر في النبات فإن الفلقتين تضمحلان، وتصيران مجرد ورقتين. فأين ذهب حجم الفلقتين؟لقد قامت الفلقتان بتغذية النبتة إلى أن أستطاعت النبتة أن تتغذى بنفسها من الأرض، ولا يمكن حدوث ذلك إلا إذا كانت الأرض محروثة. ولذلك يقولون: إن الأرض الطينية السوداء تكون صعبة، وغير خصبة، ويقال: إن الأرض الرملية أيضا غير خصبة، لماذا؟.لأننا نريد صفتين اثنتين في الأرض: الصفة الأولى أن تكون الأرض صالحة أن يتخللها الماء ليشرب الزرع، والصفة الأخرى ألاّ تُسرب الماء بعيدًا، فإذا كانت الأرض طينية فإن جذور الزرع تختنق وتتعفن، وإذا كانت رملية فإن الماء يتسرب بعيدًا، لذلك نحتاج في الزراعة الى أرض بين سوداء ورملية، أي أرض صفراء. والله حين يتكلم عن الزرع فإنه يقول: {الْحَرْثِ} وذلك حتى يلفتنا إلى أن من يريد أن يأخذ زرعًا لابد أن يجدّ ويحرث الأرض. وهو سبحانه القائل: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63- 64].وعبِّر الحق عن الزرع بالحرث لأنه السبب الذي يُوجِد الزرع. وكل ما تقدم من الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث، كل ذلك تكون قيمته عند الإنسان ما يوضحه الحق بقوله: {ذلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالله عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.
|